ياسر عقيل
ربما من عاش طفولته في الريف ورعي الاغنام، يعرف جيدا تفاصيل القلق الذي كان يعيشه اثناء رعي الاغنام في الجبال الشاهقة، والوديان البعيدة.
في ساعات الصباح الباكر ومع بدء شروق يتحرك الراعي - الذي في العادة يكون طفل - مع الأغنام من المنزل نحو الجبال والوديان، يحمل معه علبة الماء الملفوفة بقماشة مبللة، وعصا صغيرة، وشال مهترئ من تلك التي يرمي بها الاباء، او طاقية مصنوعة من الخزف، وفطيرة مصنوعة من الذرة.
في الحقيقة هي ليست لحظات للشغف في وجدان الطفل، لأنها مهمة شاقة عليه تتطلب منه نحو ثمان الى تسع ساعات، من القلق والاهتمام بالأغنام حتى يعيدها للمنزل وبطونها ممتلئة بالأعشاب، والا سيكون مطلوب منه ان يعيد الكرة عصرا لساعات اقل وكانت تسمى في قريتنا (نشيرة بفتح النون) بريف محافظة إب.
اول ما يدور في ذهن الراعي وقبل ان يتحرك من المنزل، هو مكان العشب الخصيب الذي سيوفر له ضمانة اشباع الاغنام، وايضا حرية تحركها، بحيث لا تدخل مزارع الفلاحيين، ولا يكون عرضة للعقاب من اهلة بسبب سوء مراقبته لسير الاغنام في الوادي، نتيجة شكاوى من الأهالي لأبوية.
هذا القلق هو ملازم للطفل راعي الأغنام بشكل يومي، بالإضافة الى المنحدرات الشاهقة في الجبال وغابات الاشجار الكثيفة، والتي ممكن ان تكون جزء من التهديد للأغنام اما بالضياع أو السقوط من مرتفع، وأحيانا الموت بلدغة ثعبان.
يتحرك الراعي، بهمومة الكبيرة وقلقة الذي يقتل شغفة بالصباح، محملا بذاكراته صوت ابوه الجهوري وهو يقول "خليك رجال وانتبه على الغنم"، وتوصيات امه الحريصة وهي تقول "ما يرجعين الا شابعات (اي الاغنام)، وانتبه يدخلين حق الناس الاحوال"، يتمتم الطفل برأسه لهم ويقول "ناهي ناهي" بمعنى انه سمع التوصيات، في العادة يكون وجهه عبوس وبين عينية رمد بعد النوم، بعد ان استيقظ قبل طلوع الشمس على صوت امه "شرق شرق الغنم يصيحين جاوعات" بمعنى ان الوقت تأخر.
يتحرك الطفل نحو الجبل وفي عقلة توصيات والدية، او بالأحرى محفورة في ذاكرته الصغيرة، بوجه شاحب اكلته الشمس يمتعض من الجهد والقلق اليومي الذي يعيشه على الاغنام، لكن السرور يدخل قلبه عندما يتذكر وعد والده انه سيشترى له البدلة التي يحبها في العيد الكبير بعد بيع بعض الاغنام، وهذا الحلم يجعله يهتم بالأغنام ويبذل جهد أكبر، في التفكير بالحصول على مرعي جيد.
يكون الراعي في مأزق عندما يهطل المطر ويكون مبتعد كثيرا عن المنز، اما في مرتفع جبل بعيد او وادي سحيق، تكون خياراته محدودة والتهديدات خطيرة ومخيفة، له ولأغنامه، يدق قلبه بشكل متسارع عندما يبدأ سماع صوت الرعود التي تبشر بقرب هطول المطر، يسرع لتجميع أغنامه كأب حنون يخشى على أبنائه من الضياع، في لحظة قد تأتي سيول جارفة، او امطار غزيرة جدا يصعب التحرك اثناء هطولها، يستعد الطفل الصغير بكل قواه وسرعته وصوته الذي ينادي بكلمات واسماء اعتاد ان تفهمه من خلالها اغنامه.
قساوة تلك اللحظات تعيشها ايضا قلوب الامهات في المنازل، ترتجف الام خوفا على ابنها في الوادي من ان يخفق في التصرف فيتعرض لأي مكروه، تنسى نصائحها له بالاهتمام بالأغنام وتتمنى سلامة طفلها فحسب، غير ان ابنها يعمل بكل طاقة للحفاظ على الاغنام واعادتها للبيت مكتملة، تتقطع أنفاسه وهو يتحرك بسرعة بين الامطار التي بدأت بالهطول ببطء، يأتي بتلك المِعزة الى مكان الانطلاق للمنزل فتفر الاخرى، اما الضأن (الكباش) فمهمتهن صعبة للغاية في حالة غزارة الامطار لا يتحركن بسرعة كما الماعز، وهذا ما يقلق الراعي في هذا الوقت العصيب.
لا خيارات امام الراعي الا التحرك نحو المنزل، يسرع بعصاه الغليظة التي تحرك الاغنام، وكلما ازداد المطر زادت انفاسه تسارعا وبدا يشعر بذلك الالم القاسي في صدره، يحاول ان يتخلص من العبوة الفارغة من الماء في مكان آمن لكي يرجع لها في اليوم التالي، بينما يحتفظ بالحشيش الاخضر بالشال الذي يغطي راسه من الشمس، والذي جلبه للبقرة التي لا تخرج للمراعي، لكي يتلقى اشاده اضافية من امه.
في منتصف الطريق تنقطع حذاءه البلاستكية، والتي لم يمر على تصليحها بمخيط امة سوى ايام قليلة، يحزن فيحملها بيده ويواصل التحرك مسرعا حافي القدمين، كان يأمل ان لا يفقدها الا قبل العيد، عندما تأتي الحذاء الجديدة التي وعده ابوه فيها، المطر يشتد غزارة والراعي الصغير أنهكه التعب من الطريق الطويلة والسيول التي بدأت تتشكل في الطرق الفرعية، والطين الذي أصبح عالقا في ملابسة المبتلة والتي افقدته جزء كبير من الحركة.
يبدا بالبكاء من شدة الضعف الذي وصل إليه، وامة تصيح في المنزل على ابوه واخوته "قلبي مقبوض اخرجوا شوفوا اخوكم والا بخرج أنى"، في العادة يردون عليها " شيرجع مثل كل مرة"، لكن المطر يزداد غزارة والظلام يكاد يخيم على القرية، ويكاد الراعي الصغير لا يرى منزلهم، رغم انه اقترب منه كثيرا، وبالقرب من منزلهم يبدأ بمسح دموعه، كي لا يعرف أحد انه بكى ويبقى ذلك القوي، وقبل ان يبدأ ابوه بالخروج للبحث عنه يجده امامه يحاول مسح دموعه.
تفضحه احمرار العيون، لكنه يتماسك ويدخل للمنزل يرمي بالعشب الذي جلبه بغضب، يحاول ان لا يبدي وجعة، وهو يتلهف وأنفاسه تكاد تنقطع من سرعتها، تتفحصه امه هل هو بخير، تقول: "نعم هو بخير، فقط الدماء تسيل من قدمه بسبب الشوك بعد ما انقطع حذاءه اللي خيطه قبل ثلاثة أيام".
يحاول الطفل ان يظهر قوة أكبر لكن تشققات رجلة وقدمه توجعه، وهناك غصة مكتومة في صدره، فجأة ينفجر باكيا ويقول "والله ما عاد ازيد ارعي"، يتركونه يبكي ويفرغ شحنات التعب موافقين على قراره المتشنج لحظتها بعدم الرعي مرة أخرى نتيجة الضغط والانهاك الذي تعرض له.
بعد ان يتناول وجبة الغداء يبدأ بالحديث الجاد مع نفسه من اجل تنفيذ قراره الغاضب، ثم يتذكر البدلة التي يحلم بها في العيد الكبير انه سيخسرها إذا لم يواصل مهمة الرعي، ويتراجع، وفي اليوم التالي يتحرك بنفس المهمة، متخيلا بدلته التي سيشتريها بالعيد الكبير، وسيلبسها في اول يوم دارسي متفاخرا امام زملاؤه.
_________________
الصورة: راعي مع قطيع من الأغنام في منطقة "الشعر" بمحافظة إب وسط اليمن، تصوي: محمد راجح 24 إبريل/ نيسان 2023